سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولو يُؤاخذ اللهُ الناسَ بظلمهم} أي: بكفرهم ومعاصيهم الصادرة من بعضهم، {كما ترك عليها} أي: على الأرض {من دابة}: نسمة تدب عليها، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود: (كاد الجُعَل يهلك في جُحره بذنب ابن آدم). وقيل: لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء، {ولكن يُؤخرهم إلى أجل مسمى} سماه لأعمارهم، أو لعذابهم، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} عنه {ساعة ولا يستقدمون} عليه، بل يهلكون، أو يُعذبون حينئذ لا محالة، فالحكمة في إمهال أهل الكفر والمعاصي؛ لئلا يعم العذاب، كقوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25]، و «لعل الله تعالى يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله». والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابًا؛ لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور، فإذا رأى حِلَق الذكر ومجالس العلم رفع عنهم العذاب. وفي بعض الأخبار: «لَوْلاَ شُيوخٌ ركع، وصِبْيَانٌ رُضَّعٌ، وبَهَائمُ رُتَّعٌ، لصُبَّ عَليكُمُ العَذَابُ صَبًّا».


قلت: {أن لهم الحسنى}: بدل من {الكذب}، ومن قرأ {مفرطون}؛ بالكسر، فاسم فاعل من الإفراط، وهو: تجاوز الحد، ومن قرأها بالفتح؛ فاسم مفعول، من أفرط في طلب الماء، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد؛ فمن التفريط.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم من البنات، والشركاء في الرئاسة وأراذل الأموال، {وتصف ألسنتُهُم الكذبَ} مع ذلك، وهو {أن لهم الحسنى} عند الله، وهي الجنة. وهذا كقوله: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فُصّلت: 50]. قال تعالى: {لا جَرَمَ أنَّ لهم النارَ} أي: لا شك، أو حقًا أن لهم النار، {وأنهم مُفْرَطُون}؛ مقدّمون إليها، أو متركون فيها، أو مفرطون في المعاصي والظلم، متجاوزون الحد في ذلك. أو مفرطون في الطاعة؛ من التفريط.
الإشارة: الواجب في حق الأدب أن ما كان من الكمالات ينسب إلى الله تعالى، كائنًا ما كان، وما كان من النقائص ينسب إلى العبد، وإن كان، في الإيجاد والاختراع، كل من عند الله، وهو بهذا الاعتبار في غاية الحسن.
كما قال صاحب العينية رضي الله عنه:
وكُلُّ قَبِيحٍ إِنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِه *** أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقْصَانَ القَبِيحِ جَمَالهُ *** فَمَا ثَمّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ


قلت: {وهدى ورحمة}: معطوفتان على {لتبين}، وانتصبا على المفعولية من أجله، أي: لأجل البيان والهدى والرحمة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {تالله لقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قَبلكَ} يا محمد، {فزَيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم} السوء، فرأوها حسنة، فأسروا على قبائحها، وكذبوا الرسل، فصبروا حتى نُصروا. فاصبر كما صبروا، حتى تنصر كما انتصروا. فكان عاقبة من اتبع الشيطان الهلاك والوقوع في العذاب، {فهو وليّهم} أي: متولي أمورهم {اليومَ} في الدنيا، {ولهم عذاب أليم} في الآخرة، أو: فهو وليهم يوم القيامة، على أنه حكاية حال آتية، أي: لا ولي لهم غيره في ذلك اليوم، وهو عاجز عن نصر نفسه، فكيف ينصر غيره؟ {وما أنزلنا عليك الكتاب}: القرآن {إلا لتُبين لهم}: للناس {الذي اختلفوا فيه}؛ من التوحيد، والقَدَر، وأحوال المعاد، وأحكام الأفعال، {وهُدًى ورحمةً لقوم يؤمنون} به، فإنهم المنتفعون بإنزاله.
الإشارة: كل من وقف دون الوصول إلى مشاهدة الحق، فهو مُزين له في عمله، مُستدرج به وهو لا يشعر، وحظه يوم القيامة الندم والأسف. وفي ذلك يقول أبو المواهب:
مَنْ فَاَتَهُ مِنْكَ وَصلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ *** وَمَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
ونَاظِرٌ في سِوَى مَعْنَاكَ حُقَّ لُه *** يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِهِ بالدَّمْعِ وهْوَ دَمُ
والسَّمْعُ إنْ جَالَ فِيهِ مَنْ يُحَدِّثهُ *** سِوَى حدَيثِك أَمْسَى وَقرَهُ الصَّمَمُ
فهذه علامات الوصول إلى الحق، بحيث ترتفع همته إلى حضرة الحق، ويصرف نظره في معاني أسرار التوحيد، وسمعه فيما يقرب إلى صريح التفريد، ومن لم يبلغ هذا المقام، لم ينقطع عنه تزيين الشيطان، فيُزين له عمله، فيقف معه. وبالله التوفيق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9